بقلم ياسين الحسناوي
في زمنٍ باتت فيه الشاشات الصغيرة نافذتنا الأولى على العالم، يتحوَّل اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي إلى منصَّاتٍ للتعبير الحر، لكنه تعبيرٌ كثيرًا ما يتجاوز الحرية ليصل إلى الفوضى، بل وأحيانًا إلى الإساءة المباشرة لصورة الوطن ومواطنيه، هنا، وفي هذا المشهد المتشابك، تبرز قنوات مثل “روتيني اليومي” كمثالٍ صارخٍ على ما يمكن أن تصل إليه الأمور عندما يصبح “الترند” فوق كلِّ قيمة، والمشاهدات أهم من أيّ ضمير.
“روتيني اليومي” ليست مجرد عنوانٍ لقنوات تُوثِّق الحياة اليومية، بل أصبحت ماركة مسجلة لتسليع أبسط تفاصيل الحياة، حيث تُقدَّم الخصوصية كعرضٍ للبيع، وتتحوَّل الحميمية إلى مادة استهلاكية، وفي هذا السياق، تُختزَل المرأة في أدوارٍ نمطية ضيقة، تُسَوَّق كمجرد أداةٍ لجلب المشاهدات من خلال استعراضٍ فجٍّ لأدق تفاصيل حياتها، أما الرجل المغربي، ففي هذه العروض، كثيرًا ما يُقدَّم كشخصٍ سلبي، غير مُبالٍ، أو حتى كسِلٍ في معترك الحياة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل هذه الصورة التي نريد تصديرها عن مغربنا؟ عن نسائه ورجاله؟ عن أسرار بيوتنا التي لطالما كانت مصونةً ومليئة بالحشمة والوقار؟ أم أنَّنا أصبحنا رهائن في يدِ خوارزميات لا ترى فينا سوى أرقامٍ تزيد من أرباحها الإعلانية؟
الحرية مفهومٌ سامٍ، لكنها لا تعني أن تُترك المنصات الرقمية بلا حسيبٍ ولا رقيب، ففي غياب الضوابط الأخلاقية والقانونية، تتحوَّل هذه الحرية إلى فوضى تضرب القيم المجتمعية في العمق، فكيف لا ونحن نرى المحتوى الهادف والجاد يُدفَن تحت ركام المقاطع السطحية التي لا هدف لها سوى الاستفزاز وجذب الانتباه؟
إنَّ الدفاع عن حرية التعبير لا يعني التسامح مع محتوى يُشوِّه صورة المرأة المغربية، ويُسِيء لسمعة العائلة المغربية، ويُقدِّم للعالم صورةً مشوهةً عن مجتمعنا، بل إنَّ هذه الحرية نفسها تستوجب إطارًا يحميها من الانزلاق إلى متاهات الابتذال والإسفاف.
لعلَّ البعض يخشى كلمة “رقابة” ويربطها بالقيود والتكميم، لكن الرقابة التي نُطالب بها ليست سيفًا مصلتًا على الأعناق، بل هي آليةٌ حضارية لضمان احترام القيم المجتمعية وعدم المساس بالكرامة الوطنية، إنها مسؤوليةٌ تتطلب تضافر الجهود بين صانعي القرار، والمجتمع المدني، وحتى المنصات نفسها، لفرض ضوابط واضحة تمنع الانحدار نحو الهاوية.
يمكننا أن نستمدَّ العِبَر من دولٍ أخرى واجهت هذا التحدي بنجاح، حيث فُرِضَت قوانين صارمة تُلزم صانعي المحتوى بالشفافية، وتُعاقِب من يتجاوز الحدود الأخلاقية، فلماذا لا نُفكِّر في تطبيق قوانين مماثلة تُعيد لهذه المنصات دورها البناء وتضع حدًّا لعبثها المدمِّر؟
أمام هذا الزخم من الانحدار، نقف اليوم أمام مفترق طرق، إما أن نستمرَّ في ترك المجال مفتوحًا للرداءة لتغزو عقولنا وشاشاتنا، أو أن نختار طريق الإصلاح والوعي، فالرقابة ليست قيدًا، بل هي جسرٌ نحو مسؤولية جماعية تعيد للمحتوى المغربي مصداقيته وقيمته.
لنرفع الصوت عاليًا ونُطالب بمنظومةٍ تضمن أن يكون لبلدنا وجهٌ رقمي مشرف، يعكس عمقه الثقافي، وتاريخه العريق، وطموح شعبه، فالوقت حان للوقوف أمام التيار الجارف، وحماية هويتنا من طوفان السطحية والابتذال.