نقاش لم يكن في الحسبان ذاك الذي طغى على الأوساط السياسية مؤخرا قبل أقل من عام واحد على سنة انتخابية حافلة، إذ وضع حزب العدالة والتنمية نفسه مرة أخرى في الواجهة لكن هذه المرة لا يتعلق الأمر بانتصار انتخابي وإنما بعملية “قص ذاتي” لأجنحته عن طريق تقليص تغطيته للدوائر الانتخابية خلال الاستحقاقات التشريعية، وهي الخطوة التي إن حدثت ستعني أنه اختار بنسبة كبيرة “خسارة” السباق الانتخابي أو على الأقل تحجيم نفسه فيه.
ورغم أن هذا المعطى تسلل من داخل أروقة الحزب مباشرة نحو العديد من وسائل الإعلام، إلا أن “البيجيدي” اختار التعامل مع الأمر “رسميا” على أنه إشاعة، حتى ولو صدر عن بعض قيادييه وبرلمانييه ما يثبت عكس ذلك تصريحا أو تلميحا، وهو ما يؤكد أن هذا النقاش لا زال محل شد وشذب بين صناع القرار في حزب العدالة والتنمية الذين انقسموا إلى فسطاطين، الأول يرى أن تصدرًا جديدا لانتخابات مجلس النواب سيكون بمثابة صدام جديد مع “الدولة”، والثاني يرى في تقليص المشاركة عودة بخطوة أو خطوات إلى الوراء.
الرميد.. مصدر الفكرة
وحسب ما رشح عن “البيجيدي” فإن أول من طرح فكرة تقليص المشاركة في الانتخابات البرلمانية المقبلة كان هو مصطفى الرميد، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان وعضو الأمانة العامة للحزب، الذي يرى في تحقيق حزبه فوزا كبيرا جديدا في استحقاقات 2021 على غرار ما حدث في 2011 و2016 أمرا ممكنا جدا رغم تراجع شعبيته، في ظل عدم وجود منافس حقيقي على الساحة السياسية، وهو أم غير مطمئن في نظر الرميد.
وأكد الرميد باحتشام مؤخرا وجود هذه الفكرة داخل الحزب من خلال تصريحات إعلامية شدد فيها على أن الأمر يتعلق بـ”أفكار جرى طرحها بشكل عفوي ولم تجرِ مناقشتها داخل مؤسسات الحزب”، لكن المثير أن القيادي في البيجيدي أشار إلى أن أساس النقاش هو “عدم السقوط في ممارسات عانت منها بلادنا في مرحلة سابقة”، وهو ما يمكن ربطه مع مسلسل الصدام بين الحزب والداخلية خلال انتخابات 2016 التي كان حزبُ العدالة والتنمية بقيادة عبد الإله بن كيران ينافس فيها آنذاك حزبَ الأصالة والمعاصرة بقيادة إلياس العماري.
وشكلت هذه المرحلة منعطفا حاسما لقناعات الرميد السياسية، بعد تبعاتها القاسية التي تمثلت في ما عُرف بـ”البلوكاج الحكومي” الذي انتهى بإعفاء الملك محمد السادس لابن كيران من تشكيل الحكومة واضطر الحزب بعدها للقبول بضم تحالف شكله حزب التجمع الوطني للأحرار وضم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والاتحاد الدستوري والحركة الشعبية، إلى الأغلبية الحكومية.
وبعدها مباشرة أصبح الرميد، الذي سبق أن أعلن رفضه تعويض ابن كيران في رئاسة الحكومة بعبارته الشهيرة “أنا لن أكون بنعرفة”، (أصبح) من أشد المعارضين لتجديد انتخاب رئيس الحكومة السابق لولاية ثالثة على رأس الحزب مفضلا تمهيد الطريق لخلفه سعد الدين العثماني، وحينها تردد أن وزير العدل والحريات السابق لا يريد “صداما مع الدولة”، وهو المبرر نفسه المطروح حاليا لتقليص المشاركة في الانتخابات.
معارضة من الداخل
لكن عدم مرور الحزب من مرحلة “الفكرة العفوية” كما وصفها الرميد إلى مرحلة النقاش داخل مؤسسات الحزب، دليل على أن القبول بهذه الخطوة ليس بالأمر الهين وأنه لا يحظى بقبول مجموعة من القيادات التي ترى فيه “تراجعا إلى الوراء ليس فقط بالنسبة للحزب وإنما أيضا بالنسبة للمسار الدمقراطي في المغرب”، على حد تعبير أحد أعضاء المجلس الوطني لـ”البيجيدي” في حديث خاص مع “الصحيفة”، والذي مضى أبعد من ذلك حين قال “هذه الفكرة جرى وأدها في المهد”.
هذا الكلام تؤكده أيضا مجريات المؤتمر الوطني الأخير لشبيبة العدالة والتنمية الذي انعقد جلساته عن بعد شهر غشت المنصرم، حيث وصف عبد الله بوانو، رئيس فريق الحزب بمجلس النواب الدعوات إلى تقليص تغطية الدوائر الانتخابية في الاستحقاقات المقبلة بـ”غير المنطقية وغير المقبولة”، بل اعتبرها “خطرا على العمل السياسي بالمغرب وليس فقط على حزب العدالة والتنمية”، مطالبا الأطراف التي لها “مشكلة مع البيجيدي” إلى منافسته بـ”العمل”.
لكن بالنسبة لعبد العالي حامي الدين، المستشار البرلماني عن الحزب، فإن الأمر قد يتخذ أبعادا أخرى ذكرها على سبيل التلميح خلال المؤتمر ذاته، حين أورد أن “اتخاذ القرارات الاستراتيجية يتطلب انعقاد المؤتمر الوطني بشكل استثنائي”، وهو الأمر الذي يحاول أغلبية أعضاء الأمانة العامة تفاديه كونه، بمعايير الرميد، قد يؤدي إلى نتائج عكسية تتمثل في الإطاحة بسعد الدين العثماني وعودة ابن كيران إلى منصب الأمين العام، هذا الأخير الذي كان الغائب الأبرز عن ملتقى الشبيبة لأسباب لم يذكرها توضيح صادر عن كاتبها الوطني محمد أمكراز.
نحو إلغاء الفكرة
وتشير عدة معطيات إلى أن تسريب فكرة “تقليص المشاركة” كانت عبارة عن جس نبض قبل الانتقال إلى مستوى آخر من النقاش داخل مؤسسات الحزب، وهو ما يؤكده خروج سليمان العمراني، نائب الأمين العام، عبر الموقع الرسمي للعدالة والتنمية بتاريخ 3 شتنبر الجاري، بتصريح يؤكد فيه أن هذا الموضوع طُرح من طرف بعض المنابر الصحفية لكنه لم يُطرح داخل مؤسسات الحزب، كما أن الأمانة العامة لم تناقشه من قبل ولم يكن قط على جدول أعمالها.
وأول أمس الاثنين نشر الحزب بلاغ اللقاء الشهري للأمانة العامة الذي ترأسه سعد الدين العثماني، والذي لم يتضمن أي إشارة إلى مناقشة موضوع تقليص المشاركة السياسية، بل إنه أشار ضمنيا إلى طي صفحة “التقليص” نهائيا حين أورد “فيما يتعلق بالانتخابات المقبلة، فإن الأمانة العامة تشدد على أن قرار تنظيمها في وقتها رسالة إيجابية في اتجاه احترام الاختيار الديمقراطي، مع التأكيد أن هذه الانتخابات وجب أن تكون محطة لمواصلة تعزيز هذا الاختيار الديمقراطي وإقرار مقتضيات تروم عقلنة المشهد السياسى وتعزيز دور الأحزاب السياسية في أفق إفراز أغلبيات حكومية قوية ومنسجمة ومسؤولة”.
وكانت فكرة “تعزيز الخيار الديمقراطي” إحدى منطلقات رفض فكرة تقليص المشاركة داخليا، على اعتبار أن البيجيدي عندما ترشح في أقل من نصف الدوائر سنة 1997 وفي 56 دائرة من أصل 91 سنة 2002، كان ذلك بناء على طلب من وزارة الداخلية في ظرفية كانت تطغى عليها محاولا “تحجيم الحزب”، أما حاليا فإن قواعد اللعبة تغيرت عقب دستور 2011 الذي مكن الحزب من تصدر الانتخابات مرتين متتاليتين إثر ترشحه في جميع الدوائر.