بقلم رمسيس بولعيون :
الساعة تشير إلى الخامسة والنصف صباحا، الحافلة تتوقف عند المحطة القديمة، حيث تجد الكلّ في مكانه كأنهم أصنامٌ لا رِكزَ فيها ولا حركة منذ زمن، حتى الجالسون في المقاهي هُـمْ أنفسهم ذات الاشخاص، نفس الوجوه، نفس الأرواح الذابلة على الكراسي المهترئة، تجدهم دئما وأبدا في الأمكنة ذاتها، و في هذا الوقت بالضبط من الصباح الباكر؛ سيارات أجرة تنتظر بشغف الزبناء بعد ليلة شبه ميّتة، لم تعفو سوى عمَّن وزّع أرقام هاتفه على كائنات الليل، سيما منهنّ العاهرات بخاصّة.
تمُّـر بالجوار من “لينطراضا” حوالي الساعة السادسة صباحا، ترمق أفواجا من النساء والشِّيب والشباب، وهُمْ على أُهبة التوّجه رأساً صوب بلدة بني أنصار، أو فرخانة وباريوتشينو؛ تعتقد لوهلة أن هناك “سيّد” يزورونه حتى يبعد عنهم اللـه الغمّ والحزن الذي يتدحرج في جوفهم كقطع ثلج ويرتسم على ملامح وجوههم المتجعدة التي تروي ألف حكاية في زمن الخرس، إلا أنّ أنهم ذاهبون لعيش ساعات من البؤس الحقيقي بمعابر العـار، يتحوّلون معها إلى بغال حقيقية يعيرون ظهورهم للذي يدفع حفنة دريهمات مقابل حمل أثقال قاصمةٍ للأبدان، من أجل لقمة عيش سائغة تزيد حفر القساوة على سحناتهم المحزونة.
هنا الناظور..
الساعة تشير إلى العاشرة والنصف، الموظفون إلتحقوا بمقرات عملهم، وبمجرد إجلاس مؤخراتهم على مكاتبهم الوثيرة، لا يتوانون عن التسمّر أمام الساعة الحائطية أو اليدوية، إذْ يعدّون الدقائق والثواني في انتظار أن تمّر كلمح البصر للعودة إلى منازلهم، مثقلين بيوم من العمل، عملٌ غير مرغوب فيه مثلما لا يرغب فيهم، فقط الظروف ما أملتـه عليهم فرضاً.
محلات تجارية مفتوحة، عدد الزبائن قليل قياساً بسنوات خلت، أما التجار فلا يكفّون من إعادة نفس الأسطوانة المشروخة ” أوسان نْ تيجارة روحانت”، يتحسرون ويتباكون على أيام إزدهار البيع والشراء وحركة الرواج الدؤوبة، أما اليوم فإنهم ينتظرون الصيف على أحر من الجمر، لقدوم أبناء المهجر حتى يصرفون حفنة أورويات جمعوها على مدار عامٍ من الكدح في ضيعات الفلاحة هناك في بلاد الغربة.
الساعة الواحدة تمضي أمام سوق “أولاد ميمون” أو مسجد “الحاج رْمُصطفى” أو شارع الحي الإداري” حيث يبتدئُ فيلم الفوضى، حيث الفراشة ينبتون في كل مكان وسط هذه المدينة الغارقة في بؤسها اللامنتهي، وفي كل الطرق والأرصفة والساحات العمومية، يحوّلون مركز الحاضرة إلى جوطية كبيرة بدون أسوار ولا حدود، بينما السلطة تلعب مع الباعة الجائلين لعبة القط والفأر، إذْ هُـم أمام إنعدام البدائل لا يتنازلون عن حقهم في نزع رغيف خبز يابس من فاه الغضنفر..
هنا الناظور..
الساعة الرابعة والنصف، المكان بحيّ المطار، عمال البناء أنهوا لتوهم أشغالهم الشّاقة، تقدف ببصرك يمينا وشمالا تجد العمارات تمّ استنباتها كالأشجار في كل مكان، حتى أضحت المدينة عبارة عن بنايات إسمنتية وشقـق متكاثرة، أينما ولّيت بوجهك تعثر على بنايات شاهقة وأكوامٍ من الأجـور، بنايات تفتقد للجمالية مثلما تفتقده المدينة الغارقة في الإسمنت الزّاحف ولياليها الحالكة..
تتجول في هذا الحيّ الذي سمي “جديدا” ظلما وعدوانا، تجد أن المساحة الخضراء منعدمة، لا وجود لأي فضاءٍ عام، ولا حتى مخطط نظري ليكون جديدا وراقيا يستوفي شروط السكن اللائق، من غير مقاهٍ يتنافس ملاكوها في خسارة المليارات في تفريخها للتباهي بمَنْ يملك مقهى أفضل، دونما إبداع حتى في ديكوراتها المستخنسة في تقليدٍ مشوّه من مقهى إلى مقهى..
هنا الناظور..
الساعة السادسة والنصف، المدينة خالية على عروشها، كل واحد متكوَّمٍ في مقهاه المفضلة، يدردش أو بالأحرى يبذل جهدا في الكلام الفارغ، آخرون في منازلهم يمضون ما تبقى من وقت حتى ساعة الخلود للنوم، والبعض الآخر يلتئمون في “طحطاحة” يحاربون البرد القارس بقنينة ويسكي في الهواء الطلق وسط العـراء.
هنا الناظور..
إنتهى اليوم وأسدل الستار ليفتح غدا على نفس المنوال، على نفس الملل، على إيقاع الروتين ونفس الرتابة، أيام تخلو من أنشطة ثقافية وسياسية، كما تخلو حتى من محاولات ساعية إلى جعل المدينة تتوفر على مرافق عمومية، تعيد للإنسان روحه.
التي كانت رمزا في زمن مضى، وتحولت إلى مدينة تنتهي عند مداخلها ومخارجها الحياة، تعدم فيها الروح ويقتل فيها الأمل، ليتحول فيها الإنسان إلى كومة من الإحباط والملل وكتلة من الحزن يا إما تنجذب إلى الوحدة القاتلة أو الموت بالتقسيط، إذْ لا خيار، قلت لا خيار أبداً.
هنا الناظور.. إنتهـى