إستيقض ذات صباح على غير شكله المعتاد. بطن منتفخ، سيقان غريبة، وجه قبيح. ظن أنه إستفاق على كابوس، ثم عاد ليستسلم إلى النوم. وفي حركة معتادة، حاول التقلب على جانبه الأيمن دون أن يتمكن من ذلك. وجد نفسه ينقلب على ظهره كلما حاول الحركة. شعر أنه فقد كل مقوماته الجسدية، وأن ذاته إنسلخت عنه في مشهد سريالي، عبثي، كافكائي (kafkaïen)
كما يحلو للفرنسيين التعبير عن ذلك.
المشهد، كما تعرف عليه الكثير، هو مقطع من رائعة الكاتب التشيكي، رائد الكتابة الكابوسية، فرانز كافكا تحت عنوان، “المسخ” أو “التحول” (La Métamorphose). حيث يستيقض “غريغور سامسا”، بطل الرواية، ليجد نفسه على شكل حشرة كبيرة، ويدخل في أزمة وجودية، وفي عجز لامتناهي.
تصنف هذه الرواية ضمن جنس المدرسة “العبثية” (Absurdisme), وهو فكر يتعرض للصراع بين تجاذب طموح الإنسان وقدرته على تحقيق أهدافه وأحلامه: إكراهات الحياة، صعوبة العيش، كابوس الروتين اليومي ورتابة الزمن. كما تعالج “العبثية” أفكارا أخرى مرتبطة بمعيشنا اليومي ك”الإغتراب الذاتي” حيث يصبح الإنسان مجرد أداة في أيادي القلة المتسلطة، ومجرد آلة للإنتاج والإستغلال. بتعبير آخر، سلب إنسانية الفرد والشروع في تشييئه (la chosification de l’homme).
والواقع أننا لسنا سوى نتاجا لمجتمعاتنا. فالعالم يبدأ، بالنسبة لنا، من خلال نظاراتها ولا يمكننا تمثله إلا عبر عدساتها. فإما نقبل العيش داخل قالبها كما أرسته معاييرها وقيمها، بمعنى “مطابقين” /”إمتثاليين” (Conformistes) وإلا نكون خارج نسقها وضد منطقها.
ساق لنا كافكا من خلال تحفته الأدبية نموذج إنمساخ الذات. وهو في الحقيقة ليس إلا نتيجة لمسخ العالم حولنا. فقساوة الظروف والعوز والحاجة تجرد الإنسان من آدميته وذاته الإنسانية “déshumanisation”. وحتى في تعبيرنا المغربي، كثيرا ما نردد تصورا ليس ببعيد عن واقع “غريغور سامسا” (فقت بكري بحال الفروج، النهار كامل ونا كنجري بحال الكلب، وفي الليل طحت دودة) كناية عن إنسلاخ الإنسان عن ذاته وتحوله إلى كائنات غير بشرية جراء التعب والعياء الذي تفرزه دوامة الحياة، والذي يفرضه واقع الإلتزامات، وإستعباد الإكراهات اليومية للأفراد. تماما كوضعية “غريغور سامسا” الذي دفعه ضنك الحياة إلى الإنسلاخ عن ذاته الأصلية والدخول في ذات زائفة يمكن أن تتمظهر في أبشع الأشكال. وهذا الإنسلاخ عن الذات هو أحيانا إنعكاس للتدمر و فقدان الأمل، حيث تطمس الهوية وتفقد البوصلة ويضيع بريق الحياة.
إنه نوع من الغروتيسك (Grotesque) وهو جنس أدبي يعنى بتصوير معانات الإنسان وتسليط الضوء على جوانب واقعنا المأساوي. كما عبر على ذلك بجمالية الروائي والمسرحي البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للآداب Josè Saramago “أنا لا أكتب فحسب، بل أكتب ما أنا عليه”. حيث يصر Saramago على إستحضار التشاءم من خلال “متعة الإكتئاب”. وهو ما يظهر جليا في كتاباته وخصوصا من خلال رائعته “العمى” (Blindness) الذي إستحضرها المخرج البرازيلي Fernando Meirelles في عمل سينيمائي بديع بنفس العنوان سنة 2008. والرواية هي دعوة لواقع “المدينة الفاسدة” (الديستوبيا) حيث تعم الفوضى، ويعري الجوع والوباء عن الغرائز الإنسانية، ويكشف الأفراد عن الجانب البهيمي بداخلهم، ليسيطر الحيوان فيهم على إنسانيتهم.
فالعمى أماط اللثام عن حقيقة جوهر الأفراد: أناس تنكروا لأقربائهم وذويهم حتى لا تمسهم العدوى، وآخرون لم يتوانوا على مد يد المساعدة والمواسات لناس غرباء. أناس قايضوا كل المبادئ لأجل البقاء، وآخرون فضلوا الموت على أن يحيوا كالحيوان. تنتهي القصة بقول على لسان زوجة الطبيب، إحدى شخصيات الرواية، “لا أعتقد أننا عمينا، بل أعتقد أننا عميان يرون. بشر يستطيعون الرؤية لكنهم في الحقيقة عميان”
إنه زمن التيه واللامعنى للوجود، تصبح فيه الوجوه مجرد أقنعة. كما عبر عن ذلك الكاتب والمسرحي العبثي الساخر Eugéne Ionescu من خلال مجموعة من الأعمال تتناول عزلة الإنسان، وسلب وجوده من أي غاية. ولعل أبرز تلك الأعمال مسرحية”الخرتيت” أو “وحيد القرن” (Rhinocéros). حيث يستفيق سكان بلدة صغيرة ذات يوم على مشهد غريب: قطعان من الخراتيت تتجول في الشوارع. ظن السكان في البداية أنها هاربة من حديقة الحيوان المجاورة، ليتضح فيما بعد أنهم بشر تحولوا إلى خراتيت، وبذلك كانت تلك الحيوانات مجرد إنعكاس لذواتهم. وإختيار يونيسكو لهذا الحيوان ليس أمرا إعتباطيا. فرغم كونه أضخم الكائنات الحية، إلا أنه أكثرها غباءً. كما أنه حيوان كثيرا ما إقترن إسمه بقصر النظر. فهو يهاجم قبل أن يتبين الهدف. ومع ذلك فهو أقل خطورة من البشر الذين تحولوا إلى خراتيت.
والمسرحية هي إدانة لإنسلاخ الذات وقبول منطق القطيع من خلال مفهوم “الخرتتة”(la Rhinocérisation). صرخ Bérenger، أحد أبطال مؤلف أوجين يونيسكو، في وجه الخراتيت: “لن أتبعكم، سأظل كما أنا، كائن بشري”. لكنه سرعان ما يجد نفسه وحيدا في إنسانيته، معزولا في فكره. ينتابه الرعب في وحدته إلى درجة تمني التخرتت. لكنه يستعيد عزيمته وينتفض من جديد: “الويل لمن حاول أن يحتفظ بتفرده، حسنا ليكن ما يكون سأدافع عن نفسي ضد العالم أجمع. أنا آخر إنسان وسأظل كذلك حتى النهاية لن أستسلم “.
أبان المسرحي العبثي يونيسكو عن بعد نظر مذهل عبر تصور دقيق ومدهش لواقع المجتمعات. بحيث استعرض من خلال مسرحيته الرائدة “لعبة القتل” (Jeux de massacre) وضعا يشبه ما نعيش عليه اليوم بعد خمسين سنة من عرض هذا العمل الفني. حيث يقدم لنا مشهدا لوباء مجهول ينتشر فجأة ويكتسح مدنا في أجمل فتراتها وأسعد لحظات تاريخها. يعلن حظر التجول، تمنع التجمعات والإحتفالات وإجتماع أكثر من ثلاثة أشخاص. يتزايد عدد الموتى وتتكدس الجثت في الشوارع، وتنضاف ضحايا أحداث عنيفة إلى ضحايا الوباء. تتعالى أصوات من المسؤول عن الوباء؟ من المستفيد؟ يدخل السياسيون على الخط ينظرون ويشرعون ويتدافعون ويتنافسون. يغلق الناس أبواب منازلهم في عالم أصبح كله مخاطر ومجازفة. إنغلاق الجسد جر معه إنغلاق عن الذات وقبلها إنغلاق عن المجتمع. يسدل الستار بعبارة “إنتهت اللعبة” لتنتهي المسرحية.
كلها أعمال أدبية وفكرية تترجم قدر الإنسان في مواجهة مصيره. فالإنسلاخ عن الذات هو الإنسلاخ عن الشعور بالحياة وهو بذلك الموت الحقيقي. ردد المؤلف والطبيب النفسي المصري عادل صادق قولا جميلا: “بعد ربع قرن من ممارسة مهنة الطب أستطيع أن أضيف أحد الأسباب الطبية لموت الإنسان ألا وهو الظلم”. فالحكم تذكرنا دائما أن الحياة ليست عادلة، ورغم ذلك يجب أن نحياها كما هي. في المدرسة يعلمونك الدرس ثم يختبرونك. أما الحياة فتختبرك ثم تعلمك الدرس. وهي أحيانا موت مسبق إذا كانت بلا فائدة. ومع ذلك تظل قوة الحياة أكثر من قوة الموت. وليس بوسع الموت أن يوقف زحف الحياة. لكم التعليق! وعيد مبارك سعيد!