د. نجيب العوفي:
لعل عظمة المغرب، على مرّ العصور، كامنة في هذا التعدد اللغوي والحضاري النسقي، وفي هذا المختلف المؤتلف، وهو بلا ريب أحد أسرار هذا الصمود المغربي وسط الأعاصير، حسب تعبير عبد الله إبراهيم.
التعدد اللغوي في المغرب، إذن، واقع تاريخي قائم وتوافقي وصحّي متى حافظ على شرط الوئام والانسجام، وعرفت كل لغة قدرها وحدودها وطاقاتها.
هكذا، تعايشت عبر التاريخ وتحت سقف واحد، العربية والأمازيغية والدارجة.
ومع الصدمة الكولونيالية دخلت الفرنسية على الخط، ونظرت إلى العربية كضرّة وطنية منافسة ومعاكسة، لا بد من كسر شوكتها ونزع سلطتها وهيبتها بمختلف الوسائل والذرائع، ليخلوَ لها الجو، فتصول وتجول وتَبيض وتُصفر.
والقريحة الكولونيالية وقّادة دائما في ابتكار الوسائل والذرائع، ما ظهر منها وما بطن.
هكذا، ومنذ هذه الصدمة تحديدا وصعودا مع الأجيال المتتالية، سواء التي تربّت في كنف الاستعمار أو التي رُبيت بالنيابة والوراثة على لغة الاستعمار ومقاسه، أضحى المغرب لوحة لغوية فسيفسائية عجيبة ومُريبة، وأطلت برؤوسها مع الأيام نزعات ودعوات لغوية لم تكن في الحُسبان، بعد أن اختلت المعادلة اللغوية بأيد ماكرة نهّازة للفرص، وحل الشقاق محل الوفاق فيما يشبه الحرب اللغوية المعلنة والمبطّنة.
وفي مغرب الهنا والآن، أضحت هذه الحرب معلنة على العربية جهارا نهارا، من لدن الدعاة – الغلاة إلى الفرانكوفونية تارة، وإلى الأمازيغية تارة ثانية، وإلى الدارجة تارة ثالثة.
وهذه ثالثة الأثافي بالتعبير العربي.
أقول الدّعاة – الغُلاة. وأضع خطًّا تحت كلمة الغُلاة، وهم الذين يذهبون بالدعوة / النزعة إلى أقصاها ويحرفونها عن سويتها ويحمّلونها ما لا تطيق، أي الذين يجعلونها وسْواسا في الصدور؛ لأن لا أحدَ عاقلا، في تقديري، يقف ضد التعدد اللساني السلس والسلمي في المغرب، في إطار الثوابت الوطنية والروحية والتاريخية، واللّحمة اللغوية المشتركة الموحدة للمغاربة والجامعة إياهم على كلمة سواء، وهي العربية، لوْ صدع القوم بالحق ونُزعت عن القلوب والعقول أقفالُها.
كانت الفرانكفونية، إذن، هي رأس الحربة الأولى الموجّهة إلى العربية، وتوالت السهام الرديفة بعدئذ تتْرى. وتلا سهم الفرانكفونية، تاريخيا، سهم الأمازيغية الذي استلّه المستعمر ذات يوم من عُقر الدار ليفرق به بين أهل الدار. تحت يافطة الظهير البربري.
وها نحن الآن لغويا مع ثالثة الأثافي كما ألمحتُ، وهي الدعوة إلى الدارجة، وتدريج التعليم المغربي. وعش رجبا تر عجبا. وفي المغرب لا تستغرب.
لا تستغرب في المغرب أن تطلع عليك “المغرّبات” كل حين.
وفي تقديري، أنه بإقحامنا الأمازيغية والدارجة في مشروعنا التعليمي – اللغوي – الحضاري المراهن على المستقبل، نُسئ إساءة بالغة إلى الأمازيغية والدارجة معا ونحمّلهما ما لا يحتملان، ونصيب مشروعنا التعليمي – المأمول في مقتل، ونرتد على أعقابنا وذواتنا وأعراقنا القبلية واللسانية خاسرين. وكأننا نعيد التاريخ إلى الوراء، جذَعا؛ ذلك لأن المسألة تنطوي على مفارقة تاريخية وعلمية صارخة. ففي الوقت الذي ينخرط فيه العالم دأبا في فضاء العولمة التي أصبحت قدرا مقدورا، يخترق الحدود والسدود، وفي غمار الثورة التواصلية المتجددة وهيمنة اللغات الكبرى العابرة للقارات ( الماكرولغات ) والعربية واحدة منها، نرتدّ هكذا وبنوستالجية شعبوية ماكرة ولا موضوعية، إلى لهجاتنا المحلية الخاصة (الميكرولغات) لنجعل منها معْبرنا إلى العالم وأداة تواصلنا معه. وما أشبه هذه العملية، بالنظر إلى العالم من ثقب الباب، حسب تعبير الروائي هنري باربوس.
ولا يخفى عن الأذهان،أن وراء هذه الدعوات اللغوية – الشعبوية – القبلية دائما لوبيات مغربية تكنوقراطية – غريبة الوجه واليد واللسان، تُعيد وتستعيد “أمجاد” ليوطي و”أمجاد” ظهيره البربري، في نسخة جديدة منقحة ومشفوعة هذه المرة باللهجة العامية، للإجهاز على العُروة التاريخية الوثقى للأمة المغربية والأمة العربية بعامة / اللغة العربية، التي وحّدت بين الشعوب في الليالي الحالكات وأقضّت مضاجع الكولونيال الغربي قديما وحديثا.
ولا يصحّ في الأذهان شيء / إذا احتاج النهار إلى دليل
وثمة ملاحظات وتأمّلات أساسية أسطّرها فيما يتعلق بدخول الدارجة على خط الأمازيغية والفرانكفونية:
1/ الدارجة المغربية سليلة الفصحى وفرع من دوحتها وتنويع شعبي على وترها، على غرار جلّ الدارجات والعاميات العربية، مع تلاوين وتراخيص صوتية وصرفية ودلالية وبلاغية ناتجة عن الخصوصيات البيئية – المحلية. وكل إناء لغوي يرشح بما فيه. كما أن كل اللغات الكبرى تحيا بأريحية حضارية هذه الثنائية الازدواجية بين الفصحى والعامية؛ لكن المثير للدهش والعجب هو أن ينقلب الفرع على الأصل ويناصبه الجفاء والعداء مدفوعا بنزعة قتل الأب. (فيصير الشذوذ أصلا والأصل شاذا) حسب تعبير راعي الائتلاف من أجل العربية فؤاد أبوعلي.
2/ ليست الدارجة المغربية كيانا لسانيا واحدا متّسقا، ولكنها دوارج تختلف فيما بينها قليلا أو كثيرا بحسب مضاربها الجغرافية والتاريخية؛ فالدارجة القروية تختلف عن الحضرية، والشمالية – الجبلية تختلف عن الصحراوية – الحسانية.. إلى آخر المعزوفة العامية.. مثلها في ذلك مثل قرينتها الأمازيغية التي هي في المحصلة أمازيغيات ثلاث رئيسة / الريفية والشلحة والسوسية، وأخريات محايثة في المدار نفسه…
وتبدو صعوبة التواصل بين هذه الأمشاج اللسانية – الجهوية مضاعفة وإشكالية، حين كتابتها وتهجيتها سواء بالحرف العربي أو اللاتيني أو حتى بحرف تيفينياغ الأمازيغي، لمن استطاع إليه سبيلا.
وهنا تكرّ سبحة الأسئلة المقلقة – المُحرجة – المُبكية – المضحكة:
– هل بالدارجة والأمازيغية سيواجه تعليمنا العالم، وينخرط في سباق الحضارات والمسافات الصعبة؟
– هل بالدارجة والأمازيغية، سنُنشئ ونكوّن أجيال المستقبل وندفع بها إلى معارج الرقي الأدبي والثقافي والعلمي؟
– هل بالدارجة والأمازيغية سنؤلف الكتب ونترجم مثلها عن لغات العالم وننفتح على نظرياته ونُنتج مثلها؟
– هل بالدارجة والأمازيغية نقتحم أفق الحداثة وما بعد الحداثة. نقتحم التاريخ؟
أسئلة صادمة واخزة لا يملك المرء إلا أن يعقّب عليها بصرخة المعري:
فيا موت زُرْ إن الحياة ذميمة / ويا نفس جدّي إن دهرك هازل
3/ عند المقاربة اللغوية – اللسانية لحال ومآل الدارجة المغربية، يلاحظ أن هذه الدارجة فقدت صفاءها ونقاءها، وأضحت دارجة هجينة وخُلاسية تجمع بين العربية والفرنسية. يصدق عليها المصطلح النحتي المعروف (العرنسية). وجولة في شوارع وساحات المدن المغربية المكتظّة باللوحات الإشهارية العامية التي تفقأ العين والذوق في الغدوّ والرواح، تُرينا بصفاقة المسْخرة اللغوية، أو بالأحرى المذبحة اللغوية المقترفة في حق العربية وفي حق الدارجة ذاتها ، ببرودة دم وقلة ذوق وأدب. مما لا نظير له في شوارع العالم المحترمة لهويتها ولغتها.
إن هذه العَرنْسية المرقّعة المنشورة على الملأ في الشوارع ترسيخ وتوكيد لشيزيفرونيا لسانية كاريكاتورية تثير السخرية والأسى. وهي الدارجة التي يسعى قوم إلى تكريسها وتسْييدها بهذه اللوحات الإشهارية، كمقدمات تمهيدية وبالُونات اختبار أولية. علما بأن اللغة هي مسكن الذات، كما قال هيدجر. وأن اللغة هي الوطنية، كما قال كونت جيلبيير.
4/ في مقابل هذه العرنسية المخترقة للدارجة المغربية من لدن الشارع المغربي، يلاحظ أن المغاربة، والسواد الأمي منهم، ينجذبون إلى العربية ويقبسون من تعابيرها ومفرداتها وأساليبها. وقد ساهم الإعلام العربي – المرئي بقنواته الوطنية والعربية والدولية – مساهمة كبيرة في صقل ألسنة المغاربة.
حتى قيل على لسان أكثر من باحث إن القنوات الإعلامية العربية أنجزت ما عجزت عنه المجامع اللغوية العربية.
5/ وعطفا على ما سبق، بدأت تنتشر وتذيع على ألسن فئات واسعة من المجتمع المغربي لغة عربية ثالثة، هي وسط بين الفصحى والعامية. وهي اللغة التي أطلق عليها الأديب المصري توفيق الحكيم في ستينيات القرن الفارط مصطلح ( الفُصْعامية ). وهي اللغة التي آثرها وارتضاها الحكيم في حواراته المسرحية.
وهذه اللغة الوسطى – الميسّرة صالحة للتواصل كما هي صالحة للكتابة، وبخاصة الكتابة الصحافية. وصالحة تبعا للتدريس، وبخاصة في الأقسام والأسلاك الابتدائية والثانوية. وقد كان اللساني اللبناني أنيس فريحة من أوائل الذين دعوا إلى نظرية اللغة الثالثة.
6/ ولنتأمّل أخيرا، في هذه المفارقة التاريخية والعلمية الصارخ:
في الوقت الذي يدعو فيه دعاة الدارجة إلى إحلال الدارجة محل العربية، ويدعو فيه دعاة الأمازيغية إلى إحلال الأمازيغية المحلّ الأرفع .. يدعو الجميع إلى إحلال الإنجليزية محل الفرنسية؛ لأنها اللغة العالمية والعلمية المهيمنة راهنا. فكيف يستقيم في الأذهان تُرى، مرة أخرى، تعايش لهجات موغلة في محليتها محدودة في تداولها، مع لغة موغلة في عالميتها وعلميتها؟
حقا، في المغرب لا تستغرب.
تُرى، كيف نزلت هذه النوازل اللغوية، وكيف أطلّت هذه الدعوات المشتبهات – الملتبسات في ديار المغرب؟
لا شك في أن ثمة أسبابا للنزول وظروفا سياسية – وسياقية ساعدت على ظهور هذه الدعوات، وبخاصة الدعوة إلى العامية. والمناسبة شرط، كما يقال.
ويبدو أن الظرف التاريخي العصيب والكئيب، الذي يعيشه العرب وتعيشه العربية، مناسبة سانحة للصيد في الماء العكر والتنصّل من العروبة والعربية.
ولو أدى الأمر إلى التنصّل من أوثق المواثيق والمقدسات. وحالة بلادنا الأخيرة في التطبيع مع الكيان الصهيوني أنصع دليل.
لقد بدأت هذه الدعوات في الاسْتعلان والاسْتقواء في غمرة الكسوف السياسي العربي البئيس، بعد أن أصبح العالم العربي رجُلا مريضا، بسبب فساد الأنظمة من جهة، وتكالب الإمبريالية الجديدة – القديمة على أوطانه تكالب الجياع على القصاع من جهة ثانية.
واللغة، كما هو معلوم، تعِزّ بعزّ أهلها وتذِل بذلّهم.
لقد انقلب المد القومي – العربي – التحرري جزْرا، وتوالت الهزائم تتْرى، وتشظّى الحلم العربي الكبير أباديد، وعاد كل قطر يلعق جراحه وشجونه الخاصة. وصار الربيع العربي الموعود ربيعا “عبريا” في المحصّلة. وعادت الطائفية والعشائرية والإثنيات الراقدة من جديد، لتطلّ برؤوسها. وهذا ما بدأت نذُره عندنا في المغرب أيضا. مع رجائنا في حُسْن العُقْبى.
ومع ذلك، ورغم ذلك، فالعربية التي واجهت، عبر تاريخها الطويل، رياحا هُوجا وظلت باستمرار لغة جميلة مبدعة، قادرة على مواجهة التحديات والأفخاخ المنصوبة في طريقها، ذهبا إبريزا لا تزيده النار إلا مَضاء وبهاء.
لستُ في موقف مديح للعربية، وهي أهلٌ لذلك.
وحسبي أن أستحضر هنا مثالا من شهادة (الآخر) لينوب مناب شهادة (الأنا). يقول المستعرب الإسباني بيذرو مونتابيث: “اللغة العربية لغة عظيمة وراقية جدا. وأرى أن هذه اللغة وثقافتها هما وحدهما فعلا، الحصن المتبقي للعرب. وعليهم، بجدية ووعي وتحدّ، أن يحافظوا على هذا الحصن وأن يحموه من الذوبان والانهيار؛ لأنه يعني، حينئذ، انهيارهم”.
وشهد شاهد من غير أهلها.
وها هي ذي المعاول تُرفع بأيدي أبنائها لدكّ صرحها والنيل من جدارتها وكفاءتها وعظمتها.
وما نراهم في ذلك إلا /
كناطح صخرة يوما ليوهنَها / فلم يضرْها وأوهى قرنه الوعِل
وحقّا، إن العرب لا يستحقون اللغة العربية. كما قال شاهد آخر من غير أهلها، هو المستشرق الفرنسي ماسينيون.
تأسيسا على الملاحظات والتأملات السابقة، يبدو جليا أن الدعوة إلى العامية وإلى الأمازيغية وإلى الفرانكفونية والأنجلوفونية.. دعوة إلى تكريس الهيمنة الكولونيالية الجديدة – القديمة وتمييع المدرسة المغربية، والنشء المغربي، عماد المستقبل ورهانه. بما يؤكد أن أصحاب هذه الدعوة يجهلون العربية، ولا يعرفون طاقاتها وكفاءاتها وكنوزها المتجددة، ومن جهل شيئا عاداه.
كما يبدو جليّا أن خيار العربية هو المنقذ من هذا العبث والضلال.
وإلاّ، فإن المغرب يرقص على شفير جُرف هار. وأن المدرسة المغربية ذاهبة إلى المتاهة.
ألا هل بلّغت، اللهم فاشهد.