بإمكانات صغيرة وأحلام كبيرة، تمكنت هذه الشابة المغربية/الفرنسية من البصم على إحدى أشهر قصص النجاح السياسية في فرنسا القرن الواحد والعشرين… ولدت فقيرة في قرية مغربية، ثم التحقت في باكر العمر بأبيها في فرنسا. مع أنها لم تفكر في أن تصبح سياسية، وجدت نجاة بلقاسم نفسها بطريقة ما في معترك السياسة، تتسلق الدرجات… حتى أصبحت أصغر الوزيرات في تاريخ فرنسا، مسؤولة على قطاعات مهمة، كحقوق المرأة والتعليم.
في هذا البورتريه… ننسج بعضا من فصول قصة نجاح نجاة بلقاسم!
ولدت نجاة بلقاسم في بني شيكر بإقليم الناظور، في الرابع من أكتوبر 1977. هناك نشأت في أسرة فقيرة، ربها يعمل عامل بناء في فرنسا، ترعى الغنم مع جدها في سن مبكرة، إلى أن أطفأت شمعتها الخامسة.
بعد ذلك، التحقت نجاة بوالدها في فرنسا رفقة أمها وشقيقتها الكبرى، فترعرعت بحي فقير في مدينة أبفيل، ثم بعد فترة انتقلت العائلة إلى مدينة أميان.
تقول في حوار مع صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، إن والدتها كانت تشجعها وشقيقاتها على الدراسة حتى يستقلن ماديا، وتضيف: “كانت المدرسة دوما لاعبا كبيرا ومؤثرا في رحلتي الشخصية، فقد سمحت لي بالانفتاح على العالم، وبالحركية الاجتماعية كذلك. كما سمحت لي بإثراء ذاتي، وبالتعلم والإدراك”.
حصلت نجاة عام 1995؛ أي مع بلوغها سن الرشد، على الجنسية الفرنسية، وفي ذات السنة، حصلت على الباكالوريا في علم الاجتماع الاقتصادي، ثم التحقت بجامعة بيكاردي في أميان، التي تخرجت فيها مجازة في الحقوق.
أملت نجاة كثيرا في الدراسة بالمدرسة الوطنية للإدارة، إحدى أعلى الجامعات الفرنسية شأنا، لكنها لم تتمكن من تحقيق ذلك، رغم محاولتيها الاثنتين. مع ذلك، سمح لها تفوقها بإتمام دراستها الجامعية في معهد الدراسات السياسية في باريس فنالت شهادته عام 2000.
في ذات المعهد، ستتعرف على زوجها المستقبلي، بوريس فالو، الذي ستتزوج به عام 2005، وسيصبح بذلك اسمها نجاة فالو بلقاسم، وقد أنجبت منه توأما. أما فالو هذا، فقد كان أحد المقربين للرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا هولاند.
الصعود الأسطوري
بدأت نجاة بلقاسم مسارها المهني كمحامية في مكتب باريسي معتمد لدى مجلس الدولة ومحكمة النقض، وقد اشتغلت فيه لثلاثة أعوام. أما معترك السياسة، فقد ارتمت فيه من خلال الحزب الاشتراكي الذي انضمت إليه في 21 أبريل 2002.
انضمت إلى الحزب بعدما تمكن مرشح رئاسي للجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة من الترشح إلى جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية. أثار الأمر حفيظتها، فقررت أن تتحرك لإحداث تغيير ما. أما قبل ذلك، فلم تكن لأسرتها أي اهتمامات سياسية.
تقول بلقاسم: “كنت خجولة ومتحفظة للغاية، الانخراط في العمل السياسي كان أمرا يتعارض مع شخصيتي. لكنني قررت أن أعلن التزامي مدى الحياة بمحاربة الظلم الاجتماعي ومناهضة عدم المساواة. كان ذلك هو السبب في كوني يسارية حتى النخاع”.
كان هذا الحدث مفصليا في حياة بلقاسم، وقد أبانت عن موهبة سياسية سرعان ما جعلتها تتسلق سلم السياسة، وتثير انتباه من حولها. بعد سنة التحقت بفريق عمدة ليون، ثم عينت مسؤولة عن السياسة الثقافية في منطقة رون ألب، عام 2004، المنصب الذي استقالت منه بعد أربع سنوات.
عام 2005، أصبحت عضوا في المجلس الوطني للحزب الاشتراكي، وبعد سنة اختيرت للانضمام إلى مؤسسة “القيادات الشابة” الفرنسية الأمريكية.
كان عام 2007، أول الأعوام صخبا في حياة نجاة بلقاسم السياسية، إذ أصبحت في فبراير المتحدثة الثالثة باسم المرشحة الرئاسية سيغولين رويال. كما خاضت غمار الانتخابات التشريعية في شهر يونيو بالدائرة الرابعة لمدينة رون، لكنها فشلت في انتزاع مقعد برلماني حينها. في نهاية السنة، وفي المغرب هذه المرة، عينت عضوا في مجلس الجالية المغربية بالخارج من قبل الملك محمد السادس، وذلك إلى غاية 2011.
عام 2008، انتخبت بلقاسم عضوا بمجلس مدينة رون خلال انتخابات الكنتونات، ثم حين انتخبت في لائحة الاتحاد اليساري في انتخابات بلدية ليون، وعينت كنائبة لرئيس البلدية والمكلفة بالأحداث والشباب والمجتمع، استقالت من منصبها في مجلس رون.
بعد ثلاث سنوات، عملت بلقاسم مرة أخرى ناطقة رسمية باسم المرشحة سيغولين رويال، في الانتخابات التمهيدية الاشتراكية للرئاسة. أبانت حينها نجاة عن مقدرات عالية جدا في التواصل وفن الخطابة. رويال، كما هو معلوم، لم تفز في تلك الانتخابات.
كان فرانسوا هولاند الفائز في هذه الانتخابات التمهيدية، فرشحه الحزب الاشتراكي للانتخابات الرئاسية لعام 2012. وخلال هذه الرئاسيات، عين هولاند بلقاسم متحدثة رسمية باسم حملته الانتخابية، وقد أسهمت بقسط وافر في نجاحه.
في بلاط النجاح
بعد فوز فرانسوا هولاند في الانتخابات الرئاسية عام 2012، فتح تاريخ فرنسا أبوابه الواسعة في وجه نجاة بلقاسم، إذ عينت وزيرة لحقوق المرأة ناطقة رسمية باسم حكومة جان مارك أيرولت، في عمر 35 سنة، لتكون بذلك أصغر وزيرة في الحكومة.
عملت بلقاسم على تحقيق المساواة بين الرجل والمرأة، وتقويم ما اعوج من الثقافة تجاه المرأة؛ وقد أنشأت، بغرض ذلك، المجلس الأعلى للمساواة بين الرجل والمرأة.
لكن تبني بلقاسم لقانون يجرم امتهان الجسم ويحمل المسؤولية القانونية للزبون وللشخص الذي يتاجر بأجساد النساء، أثار ضدها عنصرية كبيرة، باعتبار أصلها المغربي. هذه العنصرية لا شك أنها قد أسهمت بطريقة ما في زيادة شعبيتها في فرنسا.
في الفترة ذاتها، أرست نجاة بلقاسم، كمتحدثة باسم الحكومة، نمطا جديدا من التعامل مع هذه المهمة، إذ كانت تعمل على شبكات التواصل الاجتماعي على الإجابة شهريا عن أسئلة المواطنين.
بعد سنتين، لحقت بالحزب الاشتراكي خسارات كبيرة في الانتخابات المحلية، قام على إثرها الرئيس الفرنسي بتعديل وزاري، انتهى بمانويل فالس رئيسا للحكومة، ومرة أخرى عين الأخير بلقاسم وزيرة لحقوق المرأة، وهذه المرة للشباب والرياضة أيضا.
ظلت بلقاسم في منصبها هذا لأربعة أشهر، ثم أجري تعديل وزاري جديد، أصبحت بموجبه أول امرأة وزيرة للتربية والتعليم العالي في تاريخ فرنسا. منصب تبوأته لثلاث سنوات، وقد عانت فيه من مضايقات أحزاب المعارضة التي قابلتها بكثير من التنديد باعتبار أصولها مرة أخرى.
في غضون فتراتها الوزارية، عرفت بلقاسم بموقفها من المثلية الجنسية، إذ وقفت بجانب المثليين والمتحولين جنسيا، وعملت على مكافحة رهاب المثلية، كما قالت إن تأجير الأرحام يمكن أن يكون أداة إضافية ضد العقم، وعززت الحق في الإجهاض واعتبرته حقا أساسيا.
اليوم تعد نجاة بلقاسم، إحدى أكثر قصص النجاح في فرنسا. قصة نجاح جعلت صحيفة “الغارديان” البريطانية تصفها بـ”وجه فرنسا الجديد”، فبماذا يا ترى سيجود الزمن القادم على امرأة أحلامها تلامس السماء؟